إحدى حركات الشطرنج ذات الدلالة وغير المسبوقة على مربع الشرق الأوسط عام 2017، وبمعزل عن حجمها المحدود هي نشر قوة روسية خاصة – عبر مصر- عَبَرَتْ الحدود مع ليبيا في أوائل شهر آذار المنصرم واستقرت في الشرق الليبي حيث مناطق سيطرة الجنرال خليفة حفتر والعديد من حقول النفط الاستراتيجية.
الحكومة الروسية لم تعترف بحصول هذا “التدخل” ولا تزال… وهي حركة بدت أقرب إلى دعم روسي للجنرال حفتر بخبراء ومعدات أكثر منها قوات عسكرية قتالية فهي كانت تبلغ حسب المعلومات 22 ضابطاً وتتمركز في قاعدة تبعد مائة كيلومتر غرب الحدود الليبية مع مصر. سبقت ذلك للمرة الأولى مناورات عسكرية مشتركة مصرية روسية عام 2016. على المستوى السياسي هذا يعني ليس فقط “عودة” روسيا إلى ليبيا بل أساسا التعبير عن متغيرات الشرق الاوسط منذ التدخل العسكري الروسي الواسع في سوريا عام 2015 بطلب من الرئيس بشار الأسد في دمشق، إلى حد رواج تسمية أميركية للجنرال حفتر بأنه “رجل بوتين” وهذه تسمية تحتمل الكثير من التدقيق قياسا بتعدد مصادر دور حفتر ومنها العلاقة مع الرئيس عبد الفتاح السيسي وبعض دول التمويل الخليجي المتنافسة مع قطر.
تتسع إذن مجالات تحرّك الرئيس فلاديمير بوتين في المنطقة وتقع في قلبها السياسي العلاقة الجيدة مع مصر التي من دونها طبعا لم يكن ممكناً للخطوة الروسية في ليبيا أن تحصل.
هناك علامات عديدة لتشكّل معادلات جديدة في المنطقة أهمها بدء نوع من المشاركة (وأحيانا ربما الشراكة) الجدية الروسية الأميركية في الشرق الأوسط بسبب التغيّر الرئيسي في ما يبدو أنه تراجع الدور الأميركي عن كونه اللاعب الدولي الوحيد في المنطقة.
من الصدمات التي ستساهم طبعا في توسيع مساحة المشاركة، وليس للروس وحدهم، صدمة الاعتراف الترامبي بالقدس عاصمة لإسرائيل وقراره البدء بالتحضير لنقل السفارة الأميركية إليها. فهذه الصدمة عبرت عن نفسها باستنكار عربي واسع و- هذا مهم – بإعلان محمود عباس الرئيس الفلسطيني الأكثر اعتدالا انتهاء دور واشنطن كوسيط في أي مفاوضات فلسطينية إسرائيلية كما كان يحدث في ربع القرن الأخير.
ومع أن العلاقات الروسية الإسرائيلية قوية حاليا، وهي منذ سنوات أحد معالم الشطرنج الجديد، فالفراغ الأميركي على المستوى الفلسطيني، ولو أنه هنا فراغ أميركي لدى لاعب مهم إنما ضعيف ومستضعَف، سيخدم متغيرات المعادلة الشراكية بين القوى الكبرى لاسيما واشنطن وموسكو وبيجينغ وهي المتغيرات التي فتحت أصلا الشهية الفرنسية في عهد الرئيس مانويل ماكرون على لعب دور في المنطقة يعزز المصالح الفرنسية.
السؤال نفسه يستمر عام 2018: هل هذا التحول، التوسع الروسي، الصعود الصيني، الطموح الفرنسي الأوروبي، ازدياد فعالية القوتين الإقليميّتين إيران وتركيا، هو نتيجة استمرار “تناقص” اهتمام الولايات المتحدة الأميركية بالشرق الأوسط قياسا بالسعي الانفرادي السابق، لأن ظاهرة تناقص الاهتمام بدأت في عهد الرئيس باراك أوباما واستمرت بهذا المعنى في عهد ترامب ولكن في سياق “انعزالي” وليس في سياق انتقالي إلى منطقة أخرى اعتبرها أوباما، وعن حق!، أكثر حيوية هي شرق آسيا…؟
.. أم هو بصورة خاصة نتيجة تخبّط السياسة الخارجية الأميركية في عهد ترامب؟
في السابع عشر من هذا الشهر كانون الثاني استضاف معهد هوفر في جامعة ستانفورد في إحدى ضواحي سان فرنسيسكو في كاليفورنيا وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون في حوار حول السياسة الاخارجية الأميركية.
قبل نهاية مداخلته دار الحوار التالي بين مديرة الجلسة وزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس والتي تحتل منصبا رئيسيا في جامعة ستانفورد حاليا وبين الوزير تيلرسون الذي أنقله حرفيا عن محضر هذا اللقاء العام كما نشرته وزارة الخارجية، لربما يساعد في فهم أحد التباسات السياسة الخارجية في عهد ترامب:
“الوزيرة السابقة رايس: أنت كوزير تواجه بعض التحديات الفريدة أيضاً. كانت وسائل التواصل الاجتماعي قد بدأت لتوها عندما كنت وزيرة. الحمد لله. ونحن نعلم أنّ رئيسك يحب وسائل التواصل الاجتماعي، إذن كيف تجري الأمور وكيف تتعامل مع الضغط المستمر من وسائل التواصل الاجتماعي، وبخاصة من البيت الأبيض؟
“الوزير تيلرسون: حسناً، إنه بارع جداً في وسائل التواصل الاجتماعي وأنا لست… أريد أن أعترف هنا في قلب موطن هذه التكنولوجيا العظيمة أنه ليس لدي حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي. لم يكن لدي يوماً أي حسابات ولا أنوي أن أفتح أياً منها. إنها أداة رائعة عندما تستخدم بشكل جيد. وقد استخدمها الرئيس بأثر كبير من خلال تجاوز الوسائل التقليدية للاتصال، وهو يتقدم تماماً مع هذه القدرة على التواصل على الفور، ليس مع الشعب الأميركي فحسب، ولكن أيضاً مع أصدقائنا وحلفائنا أو خصومنا. مع العالم أجمع.
“لا أعرف متى سيفعل ذلك لأنّ هذه هي الطريقة التي يعمل بها الرئيس. يتمثل التحدي إذن بمتابعة ما يحصل فليس لدي حساب على تويتر حتى لأتمكن من متابعة تغريداته، لذلك يقوم موظفو الوزارة عادة بطباعة تغريداته وتسليمها لي.
يمكن القول من ناحية إنّ هذا جنون والتساؤل لماذا لا أفتح حساباً، ولكن من ناحية أخرى، خلصت في الواقع إلى أنّ ما يحصل ليس سيئاً. يكتب تغريدات ولا أعرف أنه سيكتبها، لذلك لا أقوم بالكثير حتى يكتبها. وبحلول الوقت الذي أكتشف فيها أنها صدرت، يكون قد مرّ بعض الوقت في الواقع، وبحسب مكان تواجدي في العالم، قد تمر خمس دقائق أو ساعة قبل أن يسلمني أحد ورقة كتب عليها إنّ الرئيس كتب لتوه تغريدة عن هذا الموضوع. لدي ردود فعل مبكرة على ذلك، ويسمح لي ذلك أن أبدأ الآن بالتفكير في كيفية تحويل ذلك… إذا كان الأمر يتعلق بسياسة خارجية، عم يغرد وكيف نأخذ هذه التغريدة ونستخدمها؟
إذن هذا مثير للاهتمام. يتساءل كثيرون عما إذا كان من المستحيل التعامل مع ذلك. كان عليّ أن أعتاد على ذلك في وقت مبكر لأنّ هذا غير تقليدي بالنسبة إلينا جميعاً. ولكنني آخذ هذه التغريدات وأتعامل معها كمعلومات. نحن نعرف ما هي أهدافنا ولم يغيّر أياً منها. هذه بكل بساطة طريقته في التواصل حول هذا الموضوع. كيف نأخذ تلك التغريدات ونستخدمها؟ إذن هذا ما… هكذا أتعامل مع الموضوع، ولكنني أظن أنني سأموت على الأرجح قبل أن أفتح حساباً على وسائل التواصل الاجتماعي”.
(انتهى الاقتباس الحرفي).